حسين منصور – البقاع
بين أزقّة ضيّقة ومنازل متداعية، يعيش أهالي مخيّم الجليل للاجئين الفلسطينيين في البقاع اللبناني هاجسًا متكرّرًا كل عام، لكنه يبدو هذا العام أشدّ قسوة: المازوت مفقود، والبرد قادم بقوة.
في منطقة تغطيها الثلوج لأشهر طويلة وتغلق فيها الطرقات، تصبح مادة المازوت للتدفئة شريان الحياة الوحيد، غير أنّ أسعارها تفوق قدرة معظم العائلات التي بالكاد تؤمّن قوت يومها.
تكاليف لا تُحتمل
يقول أدهم عطور، صاحب محل لبيع الكعك والذرة في المخيم، متحدثًا عن معاناة تتكرر كل شتاء: “نواجه معاناة كبيرة مع حلول فصل الشتاء، إذ أصبح تأمين مادة المازوت عبئًا يفوق طاقة الأهالي. تحتاج العائلة الواحدة إلى نحو عشرة دولارات يوميًا لتدفئة منزلها، في حين لا تتجاوز أجرة العامل اليومي خمسة عشر إلى عشرين دولارًا. إننا أمام معادلة قاسية لا يمكن احتمالها”.
حديث عطور لا يعكس حالته الفردية فحسب، بل يُجسّد معاناة معظم سكان المخيم الذين يعتمدون على أعمال بسيطة أو موسمية تتوقف كليًا مع اشتداد البرد وتساقط الثلوج، فتتوقف معها مصادر رزقهم المحدودة.
لقمة العيش في مواجهة البرد
في أحد أركان المخيم، يقف علي عثمان، صاحب ملحمة صغيرة، محاولًا إبقاء محله مفتوحًا رغم برودة الطقس. يقول بصوتٍ يغلب عليه الإرهاق: “إن معظم ما نجنيه من عملنا يذهب لتأمين المازوت، حتى بتنا غير قادرين على تلبية احتياجات أسرنا الأساسية. أصبح هدفنا اليومي أن نوفّر الحد الأدنى من الدفء لأطفالنا، أما متطلبات العيش الكريم فصارت بعيدة المنال”.

تتعمّق أزمة الأهالي مع تراجع القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار، في ظل غياب شبه تام لفرص العمل خلال فصل الشتاء، الأمر الذي يدفع كثيرين إلى الاقتراض لتأمين احتياجاتهم الأساسية.
ركود اقتصادي خانق
من جانبه، يؤكد أسامة الحج، صاحب صيدلية في المخيم، أنّ الركود الاقتصادي يطغى على مختلف القطاعات، موضحًا:
“الحركة التجارية شبه متوقفة، والمبيعات انخفضت إلى مستويات غير مسبوقة. فالعائلات تواجه صعوبة كبيرة في تأمين مستلزماتها اليومية من غذاء وأدوية ومصاريف مدرسية، ثم تأتي أزمة المازوت لتضاعف معاناتها”، مناشداً الجمعيات الإنسانية والمؤسسات المعنية التحرك العاجل لمساندة الأهالي قبل تفاقم الكارثة.
ويشير الحج إلى أن بعض الأسر تضطر إلى تقليص ساعات التدفئة إلى الحد الأدنى، أو استخدام وسائل بديلة خطرة مثل حرق الأخشاب أو المواد البلاستيكية، ما يعرّضهم لمخاطر صحية كبيرة داخل منازلهم الضيقة والمكتظة.
معاناة متكرّرة
أما أبو العبد، صاحب مطعم صغير لبيع الفلافل في المخيم، فيقدّر حاجته لتأمين التدفئة خلال الشتاء بنحو ستمئة دولار، ويقول: “فصل الشتاء في البقاع قاسٍ للغاية، والبرد لا يُحتمل. فنحن نكافح لتأمين مازوت التدفئة كي نحمي أسرنا من البرد، فيما الأوضاع المعيشية تتدهور عامًا بعد عام. حيث باتت الحياة في المخيم صراعًا مستمرًا من أجل البقاء”.
وسط هذه الشهادات المتكرّرة، تبرز أزمة المازوت كتحدٍ رئيسي لكل عائلة في مخيم الجليل، بل كعنوان لمعركة البقاء في وجه الفقر والبرد معًا.
تحذيرات من كارثة إنسانية
بدوره، يؤكد كارم طه، أمين سر اللجنة الشعبية لتحالف القوى الفلسطينية في البقاع، أن الوضع الإنساني في المخيمات الفلسطينية بالمنطقة “بات ينذر بكارثة مع اقتراب فصل الشتاء”، مشددًا على ضرورة تحرك المؤسسات الدولية والمحلية بشكل عاجل.
ويوضح طه أنّ منطقة البقاع تعيش شتاءً طويلًا يمتد نحو سبعة أشهر تتوقف خلالها معظم الأعمال والمصالح عن النشاط، في حين تحتاج العائلات إلى كميات كبيرة من المازوت للتدفئة، وهو ما يفوق قدراتها المالية كليًا.
ويشير إلى أن الركود الاقتصادي في مدينة بعلبك والمناطق المحيطة يُفاقم من الضغوط المعيشية، ويجعل فرص العمل محدودة حتى في الأشهر السابقة للشتاء.
ويناشد طه وكالة الأونروا والمؤسسات الإنسانية لإعلان منطقة البقاع منطقة منكوبة، وتقديم خطة دعم طارئة تشمل توفير الوقود ومواد التدفئة والمساعدات الغذائية والصحية للعائلات.
تختصر كلمات طه واقعًا مأساويًا يعيشه مئات اللاجئين الفلسطينيين في البقاع: برد قارس بلا تدفئة، وفقر بلا أفق، وإهمال يثقل كاهلهم عامًا بعد عام. ومع تفاقم الغلاء وغياب الدعم، لا يبقى أمام الأهالي سوى الأمل بأن تُبادر الجهات الإنسانية لتأمين الوقود قبل أن يتحوّل الشتاء إلى فصلٍ من المعاناة والبرد القاتل.

وأُقيم مخيّم الجليل عام 1949 عند المدخل الجنوبيّ لمدينة بعلبك في البقاع اللبناني، وهو من أصغر المخيمات الفلسطينية في لبنان. ويقطنه اليوم نحو سبعة آلاف لاجئ فلسطيني، غالبيتهم من قرى الجليل الأعلى في شمال فلسطين المحتلة.
وتبلغ مساحة المخيم أقل من كيلومتر مربع واحد، ويعاني سكانه من اكتظاظ سكاني شديد وبنى تحتية مهترئة ونقص دائم في الخدمات الأساسية، ورغم مرور أكثر من سبعين عامًا على لجوئهم، ما زال أبناء المخيم يتمسكون بحقهم في العودة إلى ديارهم الأولى في الجليل، الذي حمل المخيم اسمه تذكيرًا بتلك الجذور الفلسطينية الراسخة
