مع اقتراب نهاية عام 2025، يجد لبنان نفسه في قلب عاصفة سياسية وأمنية مُتصاعدة، مع تزايد التهديدات الإسرائيلية من جهة، واشتداد الضغط الأميركي من جهة أخرى، في ظلّ الرسائل التحذيرية التي تصل تباعاً إلى بيروت عن احتمال تصعيد مفتوح بعد انتهاء زيارة البابا لاوون الرابع عشر التاريخية، ومع اقتراب انتهاء المُهلة التي وضعها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للحكومة اللبنانية لاتخاذ خطوات ملموسة على صعيد ضبط السلاح وحصره بالدولة.
مهلة ترامب: إنذار مُقنّع؟
المهلة التي حدّدها الرئيس الأميركي ترامب للحكومة اللبنانية ليست تفصيلاً عابرًا في المشهد، فواشنطن تُصرّ عبر موفديها، وفي مقدّمهم المبعوث الأميركي توم برّاك، على أنّ لبنان أمام اختبار فعلي، وأنّ ما سيجري حتى 31 ديسمبر/ كانون الأول سيحدّد شكل العلاقة المقبلة؛ دعمٌ مشروط، أو رفع غطاء، أو إعادة صياغة التعاطي مع الدولة والجيش.
والرسالة الأخطر هي تلك التي حملها برّاك إلى العراق، والتي تتحدّث عن عمل عسكري إسرائيلي واسع ضدّ لبنان قد يستمر حتى نزع سلاح حزب الله بالكامل، وهي عبارة تكشف حجم التهويل الذي تُمارسه واشنطن، وحجم الرهانات التي تُراكمها تل أبيب في لحظة دولية وإقليمية تراها مناسبة لتحقيق أهداف كانت مستحيلة حتى الأمس القريب.
أمّا الحكومة اللبنانية، فتحاول المُناورة بين الخطوط، عبر بحث خيارات أمنية محدودة، كتعزيز انتشار الجيش في بعض النقاط، أو تفعيل التنسيق مع قوات اليونيفيل العاملة في الجنوب، من دون الدخول في صدام مباشر مع أيّ طرف داخلي، أو إطلاق مسار حوار داخلي حول ضبط السلاح وانتشار القوى المسلّحة. لكن هذه الإجراءات، مهما توسّعت، تبقى أقل من السقف الذي ترفعه واشنطن، وأكبر من قدرة الدولة على فرضها داخليًا من دون خلق توتّرات سياسية قد تتحوّل إلى اضطراب أمني.
أي محاولة لفرض تغيير جذري بالقوّة قد تعيد البلد إلى دائرة الانقسامات العميقة
فلبنان، بطبيعته المعقّدة وتوازناته الدقيقة، ليس بلدًا قادراً على اتخاذ قرارات استراتيجية كبرى بسرعة، وخصوصًا تلك التي تمسّ موازين القوى الداخلية، وبالتالي إنّ أي محاولة لفرض تغيير جذري بالقوّة قد تعيد البلد إلى دائرة الانقسامات العميقة.
وأمام هذا الواقع، تبدو خيارات لبنان محصورة بثلاثة مسارات رئيسية، وكلّ واحد منها يحمل أثمانًا مرتفعة:
(1) تسوية مدروسة: تعتمد على إجراءات أمنية تدريجية تُقدَّم على أنّها قرار سيادي لبناني، وتتيح لواشنطن الادعاء بأنّها حقّقت اختراقًا. وهذا الخيار قد يخفّف مخاطر الحرب، لكنه يواجه اعتراضات داخلية واسعة، ورفضًا واسعًا من قوى سياسية ترى فيه تنازلاً خطيرًا يُفرض على لبنان بالقوّة.
(2) التصعيد الدبلوماسي: من خلال توسيع شبكة الاتصالات مع شركاء دوليين وإقليميين لكبح الاندفاعة الأميركية الإسرائيلية، وخلق مظلّة تحمي لبنان من سيناريو العصا الغليظة، إلّا أنّ نجاح هذا الخيار يحتاج إلى تناغم داخلي مفقود، وإلى وزن دولي غير مضمون.
لبنان الذي اعتاد السير فوق الهاوية، يجد نفسه اليوم أمام هاوية أعمق، وسماء أقلّ رحمة
(3) الرفض الكامل للمهلة: من خلال التمسّك بالمعادلة القائمة وعدم تقديم أيّ خطوة تحت الضغط، لكنه خيار يحمل مخاطر واضحة، تتمثّل بزيادة وتيرة الضربات الإسرائيلية، أو إدخال البلد في مرحلة توتّر مفتوح.
الأسابيع المقبلة ستكون مفصلية، إسرائيل تُلوّح بالقوّة، وواشنطن ترفع السقف، والدولة اللبنانية تتحرّك في مساحة ضيّقة بين خطوط حمراء، داخلية، وأخرى خارجية، في وقت لا يبدو فيه أنّ أي طرف مستعد للتراجع.
لكن الحقيقة المرّة أنّ لبنان اليوم ليس أمام قرار واحد صعب، بل أمام سلسلة قرارات، كلّ منها قادر على تغيير وجه المرحلة المُقبلة. والتحدي الأكبر يكمن في إدارة الوقت بأقلّ الخسائر، وعدم السماح بفرض وقائع جديدة على الأرض قبل أن تمتلك الدولة القدرة على استيعابها أو تعديل مسارها.
لبنان على حافة الاحتمالات كلّها، والبلد الذي اعتاد السير فوق الهاوية، يجد نفسه اليوم أمام هاوية أعمق، وسماء أقلّ رحمة.