حسين منصور – البقاع
على بُعد خطوات قليلة من أسوار قلعة بعلبك المهيبة، يقف تجمع ثكنة غورو كصفحة مفتوحة من التاريخ، وكأن الحجارة القديمة ما تزال تحفظ وقع خطوات الجنرال الفرنسي غورو الذي اتخذ منها مقراً لقيادته قبل نحو قرن.
لم تتغير المباني كثيراً منذ تلك الحقبة؛ بقيت جدرانها كما هي، وبقيت فوقها ذاكرة اللاجئين الفلسطينيين الذين وجدوا في هذه الثكنة ملجأً قسرياً عقب تهجيرهم عام 1948.
ورغم مرور عقود على النكبة، ما يزال المكان شاهداً على نكبات أخرى تتجدد كل شتاء وكل صباح داخل بيوت رطبة، متصدعة، ومفتوحة على العوز.

إرث تاريخي مُهمَل وبدايات سكن قاسٍ
حين وصلت العائلات الفلسطينية الأولى إلى ثكنة غورو بعد تهجيرها، كانت المباني خالية تماماً، مجرد هياكل عسكرية تركها الفرنسيون خلفهم. ومع الوقت تحوّل هذا المقر العسكري إلى تجمع سكني صغير يقطنه اليوم ما يقارب 25 عائلة فلسطينية إلى جانب عدد من العائلات اللبنانية.
لكن ما لم يتغير هو الإهمال؛ فالأونروا لا تقدّم أي خدمات داخل التجمع، والجمعيات الحاضرة اسماً غائبة فعلاً، بينما بقيت البيوت بمظهرها الأول: بلا ترميم، بلا بناء جديد، وبلا أي تدخل يحفظ الحد الأدنى من الكرامة.
في أحد الأزقة، تستعيد الحاجة سميرة محمود بدايات السكن في المكان، وتقول إن عائلتها لجأت إلى الثكنة بعد النكبة حين كانت مجرد مبانٍ عسكرية مهجورة، لكنها سرعان ما اصطدمت بقسوة البرد وانعدام المستلزمات، ما دفعهم للانتقال مؤقتاً إلى مخيم الرشيدية قبل العودة من جديد.
وتشرح أن المنازل بقيت منذ ذلك الوقت “بلا إصلاح حقيقي”، وأن مياه الأمطار والرطوبة أصبحت جزءاً من حياة السكان داخل غرفهم الضيقة.
ظروف معيشية متدهورة ورطوبة تنخر البيوت
البيوت داخل الثكنة لم تعد تواجه مشكلة تسرب المياه فحسب، بل أصبحت الرطوبة المزمنة جزءاً أساسياً من معاناة الأهالي.
جمانة محمود، وهي إحدى المقيمين في الحي، تشير إلى أن الجدران “لا تجف أبداً”، وأن الرطوبة تسكن الغرف والفرش والملابس. وقدمت عائلتها أكثر من طلب للترميم “من دون أي استجابة”، ما يتركهم تحت رحمة الشتاء كل عام.
وتضيف أنّ شراء المياه أصبح عبئاً يومياً بسبب عدم وجود أي شبكة أو مصدر داخل التجمع، وأن مشكلات الجهاز التنفسي أصبحت منتشرة بين الأطفال بسبب البيئة غير الصحية.

بنية تحتية متهالكة وخدمات شبه غائبة
طرق ضيقة، شبكات صرف صحي متآكلة، أسطح متصدعة، وأسلاك كهرباء عارية… هذا هو المشهد اليومي داخل ثكنة غورو.
البلدية التي كانت تجمع النفايات توقفت عن ذلك منذ نحو عامين بفعل الأزمة المالية، ما أدى إلى تراكم النفايات وانتشار الروائح، وزاد من تدهور الواقع الصحي للسكان.
منير طه، أحد السكان القدامى، يؤكد أن التجمع “بلا أي خدمات أساسية”، وأن الأهالي باتوا عاجزين حتى عن تأمين المازوت للتدفئة.
ويشرح أن عملية ترميم محدودة جرت قبل 15 عاماً لإصلاح بعض الأسطح، لكنها لم تصمد طويلاً، فعادت المياه للتسرب من جديد.
ويرى أن تدهور البنية التحتية دفع كثيراً من العائلات إلى المغادرة، فيما بقي من لا يملك القدرة على الاستئجار خارج الثكنة.
أزمة صحية تتصاعد وسط غياب التدخل
المشكلات الصحية ليست أقل خطورة من التصدعات في الجدران. الرطوبة المستمرة وتسرّب مياه الأمطار جعلا المنازل بيئة مثالية للأمراض الصدرية، بما في ذلك الحساسية والربو، خصوصاً بين الأطفال وكبار السن.
محمد جمال محمد، أحد شباب التجمع، يصف الواقع بوضوح أكبر، مشيراً إلى أن “الصرف الصحي يفيض في كثير من الأحيان”، وأن الأهالي يعيشون على وقع تسرب المياه من الأسقف “كما لو أن المطر هو ضيف دائم داخل المنازل”.
ويؤكد أن النداءات المتكررة للترميم بقيت من دون استجابة من أي جهة، على الرغم من أن السكان “لا يختلفون عن بقية اللاجئين في المخيمات الأخرى” ويستحقون الحد الأدنى من الخدمات.

دعوات لإعادة الحياة إلى المكان
وسط هذا المشهد المظلم، يتمسك الأهالي بأمل التدخل قبل فوات الأوان. فهم يطالبون بإعادة ترميم المنازل المتصدعة بشكل عاجل قبل حلول الشتاء، ويشددون على ضرورة إصلاح البنية التحتية التي وصلت إلى مرحلة الخطر، وإعادة تفعيل خدمات النظافة بعد توقف البلدية، إضافة إلى توفير مصادر مياه وخدمات صحية تليق بواقع السكان.
كما يجددون مطالبتهم للأونروا والجمعيات والمؤسسات الإنسانية بضرورة تحمل مسؤولياتها تجاه هذه العائلات التي تُركت وحدها في مواجهة الفقر والرطوبة والمرض.