مصادرة الاحتلال للأعمدة الحجرية الأثرية بالضفة المحتلة ومن قبلها كل الاستهدافات الممنهجة التي شهدتها المناطق الأثرية الفلسطينية في شتى الجغرافيا ليست مجرد حادثة جديدة تُضاف إلى سجل الانتهاكات اليومية؛ إنها فعل يكشف هشاشة رواية تبحث عن جذور لا تملكها، وكيانا يقف مذعوراً أمام شواهد التاريخ التي تفضح زيفه.
فعندما ينقضّ جنود الاحتلال على حجارة نقشتها أيدي الأجداد قبل مئات السنين، فهم لا يصادرون حجراً، بل يحاولون بكل ما أوتوا من خوفٍ أن يصادروا ذاكرة تجمع شعبا بأرضه منذ فجر الحضارات.
الاحتلال يدرك، أكثر من أي طرف آخر، أن معركته ليست على قطعة أرض هنا أو موقع أثري هناك، بل على قصة كاملة يحاول أن يسطو عليها: قصة هوية شعب يعرف حقه جيدا ولا ينتظر اعترافا من أحد ليبقى راسخا بأرضه مطالبا بحقه متجذرا فيه.
ولأن هذه القصة عصية على الانكسار، يقف الاحتلال في مواجهة كل ما يدلّ على أصالة الفلسطيني وعمق وجوده، من شجرة الزيتون إلى بقايا الأعمدة والقبور والمعابد والقصور.
لكن المدهش أنه كلما امتدت يد الجندي نحو حجر صامت، ازداد هذا الحجر نطقا، وارتفعت شهادة المكان أكثر فأكثر.
إن هذا الإصرار على محو الآثار لا يعكس قوة المحتل، بل ضيق أفقه وقلقه الوجودي. فالقوة التي تحتاج إلى تدمير الماضي لتبرير الحاضر هي قوة مفلسة، تدرك أن الزمن ليس في صفها، وأن التاريخ لا يُكتب بالبنادق التي استنفذت قوتها واستفرغت وسعها في صدور الفلسطينين المدنين العزل بل بصمود صاحب الحق على الأرض.
ومن هنا، تبدو هذه الأفعال كأنها صرخات كيانٍ يتداعى، يحاول أن يختبئ خلف الدبابات لأنه عاجز عن مواجهة الحقيقة: فلسطين ليست فراغاً يشكّله الوافدون، بل وطن يرسّخ ذاته في ذاكرة كل حجر وشجرة وجدار.
ومقابل هذا الإفلاس، يقف الشعب الفلسطيني بثباتٍ نادر، يواجه محاولات الطمس بالحضور، ويقاوم محاولات التزييف بالتشبث بالأرض، ويحفظ تاريخه لا في الكتب وحدها، بل في تفاصيل الحياة اليومية، في أسماء القرى، في الحقول، في القصص التي يتوارثها الأطفال عن أجدادهم.
كل بيت يُهدم يُعاد بناؤه، وكل أثر يُسرق تظل حقيقته باقية في الوعي، وكل شجرة تُقطع تُنبت عشرات غيرها، في مشهد يثبت أن هذا الشعب جزء من الأرض لا يُقتلع.
إن الاحتلال في معركة مع الجغرافيا والتاريخ والهوية في آن واحد—معركة يعرف في داخله أنها غير متكافئة، وأن نهايتها محسومة: فالتاريخ لا يحمي المحتل، والزمن لا يصطف مع الزائلين، والحق لا يموت طالما أن هناك شعباً يتنفسه ويعيش لأجله.
ولذلك، مهما صادر الاحتلال من حجارة، لن يصادر قصة شعبٍ لا يزال واقفاً رغم القهر، ثابتاً رغم الجراح، متجذراً رغم العواصف… شعبٍ يعرف تماماً أن بقاءه ليس احتمالاً، بل حقيقة لا يستطيع الاحتلال—مهما امتلك من قوة—أن يغيّرها.