| |

مخيم فلسطيني على تلة صيدا… صمود بلا حدود

على تلةٍ تطل على مدينة صيدا، يقف مخيم المية ومية شاهدًا حيًا على نكبة لم تنتهِ، وعلى صمود يومي في وجه الفقر والحرمان والتهميش، حيث لا تُقاس الحكاية بعدد البيوت أو مساحة الأرض، بل بقدرة الإنسان على البقاء متمسكًا بكرامته وأمله.

لم يولد مخيم المية ومية من اختيار، بل من خوفٍ نجا بأصحابه من المجازر، وحلمٍ ظنّوه قصير العمر، في عام 1948 حمل اللاجئون الفلسطينيون ما استطاعوا من ذكريات ووجع، ومضوا نحو لبنان على أمل أن تكون الخيمة محطة عابرة في طريق العودة، غير أن السنوات طالت، وكبر الحلم داخل مساحة ضيقة، فتحوّل الانتظار إلى حياة كاملة، وصار المخيم وطنًا مؤقتًا لأجيال لم ترَ فلسطين، لكنها ورثت حكايتها وحقها.

 

مخيم يطل على المدينة ويعيش على هامشها

يقع مخيم المية ومية شرقي مدينة صيدا في جنوب لبنان، على تلة ترتفع نحو ثلاثمئة متر عن سطح البحر وتشرف على المدينة الساحلية، ويبعد عنها قرابة خمسة كيلومترات. أُقيم المخيم على أطراف بلدة المية ومية، وتبلغ مساحته أربعة وخمسين دونمًا، ما يجعله من المخيمات الفلسطينية الصغيرة نسبيًا.

ويحد المخيم من الشرق بلدة المية ومية، ومن الغرب مدينة صيدا، ومن الشمال تلة مار الياس ومنطقة الهمشري – الفوار، ومن الجنوب تلة سيروب ومخيم عين الحلوة، في موقع يختصر التناقض بين الإطلالة الجميلة والواقع المعيشي القاسي.

من قرى فلسطين إلى حياة اللجوء

تعود جذور مخيم المية ومية إلى عام 1948، مع موجات اللجوء الفلسطيني القسري عقب النكبة، فقد وصلت إليه عائلات هجّرتها العصابات الصهيونية من مدنها وقراها، ومنها صفورية، الطيرة، حيفا، الجش، عكا، ويافا. كان اللجوء يُنظر إليه آنذاك كمرحلة مؤقتة، إلا أن السنوات مضت، وترسّخ المخيم كواقع دائم فرض نفسه على أجيال متعاقبة.

جرح 1982: الاجتياح الذي اقتلع نصف المخيم

شكّل عام 1982 واحدة من أقسى المحطات في تاريخ المخيم، حين تعرّض لعملية تجريف واسعة نفذتها القوات اللبنانية، أدت إلى تدمير نحو نصف مساحته وتهجير أكثر من ثلاثة آلاف من سكانه إلى المخيمات المجاورة. ولا تزال آثار تلك المرحلة محفورة في الذاكرة الجماعية لأهالي المخيم، كجرح لم يندمل رغم مرور العقود.

بلغ عدد سكان مخيم المية ومية نحو أربعة آلاف وخمسمئة نسمة بحسب إحصاءات وكالة الأونروا عام 2000، فيما تشير تقديرات عام 2017 إلى أن العدد الفعلي يقترب من ضعف عدد المسجلين رسميًا. هذا التفاوت بين الأرقام والواقع يزيد من الضغط على الخدمات المحدودة أصلًا، ويعمّق من معاناة السكان اليومية.

الصحة تحت الضغط: عيادة واحدة لحياة كاملة

يُعد القطاع الصحي من أكثر القطاعات هشاشة في المخيم، إذ يقتصر على عيادة واحدة تابعة لوكالة الأونروا، تضم طبيبًا عامًا وأقسامًا للأمومة والطفولة وطب الأسنان، إضافة إلى مختبر بسيط، وتعمل لعدد محدود من الأيام في الأسبوع “ثلاث أيام ونصف”  . هذا الواقع يخلق اكتظاظًا دائمًا ويحدّ من قدرة الطاقم الطبي على تلبية احتياجات المرضى.

وغالبًا ما يضطر السكان إلى التوجه نحو عيادات مدينة صيدا أو مخيم عين الحلوة لاستكمال الفحوصات أو تلقي العلاج، ما يشكّل عبئًا ماليًا كبيرًا على العائلات الفقيرة، خاصة في ظل غياب أي مركز طوارئ أو عناية للحالات الحرجة داخل المخيم.

وفي هذا الملف يقول المسؤول السياسي لحركة حماس في مخيم المية ومية رفيق عبد الله، إن اللاجئين الفلسطينيين يواجهون تحديات كبيرة في القطاع الصحي، في ظل دوام عيادة وكالة الأونروا الذي لا يلبي حاجات السكان المتزايدة.

وفي ما يخص ملف الشؤون الاجتماعية التابع لوكالة الأونروا، شدد عبد الله على أهمية إعادة النظر في هذا الملف الأساسي، ولا سيما بعد توقفه منذ فترة وعدم استيعابه حالات جديدة، الأمر الذي يشكل عبئًا اقتصاديًا إضافيًا على عائلات المخيم.

كما أشار إلى معاناة الأهالي في ما يتعلق بإعادة الترميم والبناء، نتيجة عدم الحصول على التراخيص اللازمة، ما يفاقم أوضاع العائلات التي تحتاج إلى ترميم منازلها المهترئة أو إعادة بنائها منذ سنوات.

وفي سياق آخر، لفت عبد الله إلى التشديد على حركة مرور اللاجئين الفلسطينيين عبر حواجز الجيش اللبناني خلال عمليتي الدخول والخروج من المخيم، مؤكدًا أن هذه الإجراءات تنعكس سلبًا على الحياة اليومية للسكان.

التعليم بين الاكتظاظ والغياب القسري للثانوية

يضم مخيم المية ومية مبنى مدرسيًا واحدًا تابعًا لوكالة الأونروا، يحتوي على مدرستين: صفد المتوسطة وعسقلان الابتدائية، ويعمل بدوامين صباحي ومسائي. ويعاني المبنى من اكتظاظ شديد نتيجة تزايد أعداد الطلاب، فضلًا عن استقباله طلابًا من مناطق مجاورة مثل صيدا وعبرا وسيروب والفوار.

وفي ظل غياب مدرسة ثانوية داخل المخيم، يُجبر الطلاب على متابعة تعليمهم خارج المخيم، لا سيما في مخيم عين الحلوة، ما يحمّل العائلات أعباء مالية إضافية، ويثير مخاوف أمنية دائمة، فضلًا عن تأثيره السلبي على الاستمرارية التعليمية لبعض الطلبة.

بنية تحتية متعبة: كهرباء متهالكة وطرق تنتظر الإصلاح

تعاني البنية التحتية في المخيم من مشكلات مزمنة، لا سيما في شبكات الصرف الصحي والطرقات والكهرباء. فعلى الرغم من توفر مياه الشفة بكميات كافية وصلاحيتها للاستخدام، إلا أن شبكة المياه بحاجة دائمة إلى صيانة وتنقية.

أما شبكة الكهرباء فهي قديمة ومتهالكة، وتشهد فوضى في التمديدات نتيجة الضغط الكبير على المحولات، ما يؤدي إلى انقطاعات متكررة وأعطال دائمة. وتبرز الحاجة الملحّة إلى محول كهربائي إضافي لتخفيف العبء وتحسين الاستقرار الكهربائي، خاصة خلال فصل الصيف.

ورغم تنفيذ بعض المشاريع التحسينية مؤخرًا، كتحسين الطريق المؤدي إلى المخيم، إلا أن هذه الجهود تبقى محدودة ولا تلبي حجم الاحتياجات الفعلية.

بلا مقبرة: حين يصبح الموت عبئًا إضافيًا

لا توجد مقبرة داخل مخيم المية ومية، ويُضطر الأهالي إلى دفن موتاهم في المقابر المجاورة مقابل مبالغ مالية، ما يشكّل عبئًا إضافيًا على العائلات المنهكة أصلًا بالأوضاع الاقتصادية الصعبة.

الواقع الاجتماعي: فقر، بطالة، وغياب للمساحات الثقافية

يعيش سكان المخيم ظروفًا اجتماعية ومعيشية قاسية لا تختلف كثيرًا عن باقي المخيمات الفلسطينية في لبنان، في ظل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وتراجع خدمات الأونروا. كما يعاني المخيم من نقص واضح في المرافق الثقافية، إذ لا توجد مكتبة عامة أو مراكز معرفية تلبي احتياجات الطلاب والشباب.

شباب بلا ملعب: حين تضيق المساحة عن الأحلام

وعلى الرغم من وجود بعض الأندية الرياضية، إلا أن غياب ملعب مجهز يحرم الأطفال والشباب من مساحة آمنة لممارسة الرياضة، ويزيد من الضغوط النفسية والاجتماعية في بيئة تعاني أصلًا من الاكتظاظ وضيق المساحة.

المخيم صمود يومي وحق لا يسقط بالتقادم

يبقى مخيم المية ومية شاهدًا حيًا على مأساة اللجوء الفلسطيني المستمرة منذ أكثر من سبعة عقود. ورغم ضيق المكان وقسوة الظروف وتراجع الخدمات، لا يزال أهله متمسكين بحقهم في العودة وبحلم الكرامة الإنسانية لذلك إن تحسين أوضاع المخيم ليس مطلبًا ثانويًا، بل حق إنساني أساسي، ومسؤولية أخلاقية تقع على عاتق المجتمع الدولي وكل الجهات المعنية بقضية اللاجئين الفلسطينيين، إلى أن يتحقق الحق وتعود الأرض إلى أصحابها.

موضوعات ذات صلة