مع مرور شهرين على إعلان وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، تبلورت بوضوح محاذير خطيرة يجب أن ينتبه الفلسطينيون وكل من يدعمون حقوقهم إليها:-
أولاً: وقف إطلاق النار المعلن، لم يتحول إلى وقف للحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، بل أصبح في الواقع وقف إطلاق نار من جانب واحد، هو الجانب الفلسطيني، حيث خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار في قطاع غزّة 738 مرة منذ دخوله حيز التنفيذ، ما أدى إلى استشهاد 388 فلسطينياً وجرح 980، جميعهم مدنيون، وعدد كبير منهم من الأطفال، وهذا لا يجوز قبوله، لأنه سيؤدّي، عاجلاً أو آجلاً، إلى إنفجار الوضع، وهذا ما تريده، كما هو واضح، حكومة نتنياهو.
ثانياً: لم يستطع الوسطاء والمجتمع الدولي إجبار إسرائيل على احترام تنفيذ اتفاق ترامب الذي وقعت عليه، إذ لا تزال تفرض حصاراً رهيباً على المساعدات الإنسانية كمّاً ونوعاً، وما زالت ترفض فتح معبر رفح في الاتجاهين، ولم تنفذ أي انسحاب من المناطق التي تحتلها في قطاع غزّة، بل عمدت إلى توسيع سيطرتها بالتسلل إلى مناطق جديدة وضمّها إلى ما تُسمى “المنطقة الصفراء”.
ثالثاً: هناك حرب حقيقية تشنّها حكومة إسرائيل على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية أيضاً، ويتشارك فيها الإرهابيون المستعمرون بحماية (ورعاية) جيش الاحتلال نفسه، ومؤسّسات الاستيطان الاستعماري التي تنفذ ضماً وتهويداً فعلياً للضفة الغربية بكاملها، في ظل تقاعس مفضوح من الأطراف الدولية عن ممارسة أي ضغط فعلي، أو فرض عقوبات، حتى أصبح شعار “حل الدولتين” الذي لا ينفك زعماء الغرب عن ترديده عنواناً للنفاق، وكأنه غطاء لمنح إسرائيل الوقت لاستكمال تنفيذ الضم على الأرض، وتصفية أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، ولشل أي جهد دولي للتصدّي الفعال للسلوك العدواني الإسرائيلي.
لم يستطع الوسطاء والمجتمع الدولي إجبار إسرائيل على احترام تنفيذ اتفاق ترامب الذي وقعت عليه
رابعاً: ضرورة التصدّي الفوري لمحاولات فرض وصاية أجنبية كاملة على قطاع غزة، وفصله فعلياً عن الضفة الغربية، وهي وصاية لا تقتصر على تشكيل ما يسمّى مجلس السلام، وقوة الاستقرار، بل وصلت في هذا الأسبوع إلى حد التدخل المباشر في تركيبة اللجنة التي اقترحت لإدارة غزّة، باستبدال أسماء أعضائها، وجعلها مجرّد لجنة فنية يهيمن عليها مجلس أجنبي.
ولا يعقل بعد مائة عام من نضال الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار البريطاني والاحتلال الإسرائيلي أن يعود الفلسطينيون إلى عهد الرضوخ لاستعمار أجنبي جديد، بالتوازي مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي.
خامساً: لا بد من التشديد على الموقف الفلسطيني التي يؤيده الوسطاء العرب والمسلمون ودول عديدة أخرى، كما لمسنا في أثناء مداولات منتدى الدوحة، مثل النرويج وإسبانيا وتركيا، بالإضافة إلى مصر وقطر والسعودية، أن ما تسمّى “قوة الاستقرار” يجب أن تكون قوة لحفظ السلام ومراقبة وقف إطلاق النار، لا أن تكون قوة تنفيذية لفرض السيطرة. وهذا يعني أن هذه القوة يجب أن تتموضع خارج التجمعات الفلسطينية وبين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن تدخل إلى ما تُسمّى “المنطقة الصفراء” لإخراج جيش الاحتلال منها كما ينص الاتفاق.
سادساً: يجب فتح معبر رفح في أسرع وقت، في الاتجاهين، لتتاح للعالقين من أهل غزة في مصر وغيرها فرصة للعودة إلى بلدهم، وأن يضمن من سيخرج للعلاج أو الدراسة أو العمل أن حقه في العودة سيبقى مضموناً وقائماً.
سابعاً: بعد أن وظفت إسرائيل ملياري دولار لنشر الدعايات الكاذبة وتشويه الرواية الفلسطينية ومحاربة حركات التضامن الدولية، لا بد من جهد فلسطيني منظم للتصدّي لذلك، ولا بد من منع انحسار حركة التضامن الدولية، التي أصبحنا اليوم في أمس الحاجة إلى تصعيدها، باعتبارها مصدر قوة رئيساً لا غنى عنه ولا بديل له لدعم نضال الشعب الفلسطيني.
ثامناً: في ظل الاستباحة الكاملة للضفة الغربية، بالإرهاب والاستيطان والقمع، بالإضافة إلى استمرار جيش الاحتلال في استهداف حياة الفلسطينيين في قطاع غزّة، لا بد من إعادة فتح ملف “الحماية الدولية للشعب الفلسطيني” ليس بالشعارات والبيانات فقط، بل بابتكار آليات عملية، مشابهة لما نجحنا في تنفيذه، في أثناء الانتفاضة الثانية بإنشاء “حماية دولية شعبية” ساهمت في التصدي لاعتداءات الاحتلال، وشكلت قاعدة لاستنهاض التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني.
هذه تحدّيات خطيرة تواجه الشعب الفلسطيني وأهم ما يملكه في مواجهتها أمران رئيسيان: أولاً، الصمود والبقاء في فلسطين بكل أجزائها، وهو صمود جعل عدد الفلسطينيين في فلسطين رغم النكبة وتهجير أكثر من سبعة ملايين لاجئ، أكبر من عدد اليهود الإسرائيليين، وهذه هي العقبة الأعظم التي تمنع نجاح المشروع الصهيوني بالاستيلاء على الأرض وتهجير السكان.
وثانياً، حركة التضامن الدولي التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث، حيث قدر الباحثون عدد المشاركين فيها خلال حرب الإبادة على قطاع غزّة بأكثر من مليار إنسان. وهي حركة يجب رعايتها، وتقويتها، وإسنادها ليس فقط لتستمر، بل لتتصاعد أكثر، وتتحوّل إلى حركة لفرض العقوبات والمقاطعة على مرتكبي الجرائم ضد الشعب الفلسطيني، ومن أجل تغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني.
