كنّا في مواعظنا وخُطبِنا نستشهد كثيرًا بالمواقف العظيمة، نأتي بها من عُمق تاريخنا المجيد، حتى جاء بنا الزمن في هذه الأيام لنسمع ونرى ما يُضاهي تلك المواقف، وقد يزيد عليها عظمةً وروعة.
في تاريخنا الفلسطيني وجدنا من الأعمال البطولية والقصص الفدائية ما يُذهل العقول وتَشخَص له الأبصار، ووجدنا من المواقف الرجولية والنسائية ما لم يسبق له مثيل. وصِرنا نقارن ونقول مثلًا: الخنساء استُشهد أبناؤها الأربعة في معركةٍ واحدةٍ فحمدت الله وأثنت عليه، وصرنا اليوم نجد من النساء مَن استُشهدت عائلتها كاملة، أو من كلّ أبنائها مَن هو بين أسيرٍ وشهيد، ولا تقول إلا بما يُرضي الله، بل وتشكر الله على ذلك. الواقع الفلسطيني اليوم يشهد على مئات الخنساوات.
في يوم السابع من أكتوبر العظيم، وما بعده من أيامٍ عظيمة، رأت الأمّة ما لا أُذُنٌ سمعت، ولا عينٌ رأت، ولا خطرَ على قلبِ بشر. مشاهدُ الجهادِ والبطولة، ومشاهدُ الصبرِ والتضحية، ومشاهدُ البلاءِ والعطاء، ما لم يكن ليتصوّره أحدٌ مهما كان خياله واسعًا. وكان أيضًا أن يُلقى من المتفجرات مائتا ألفِ طنٍّ على حيّزٍ ضيّقٍ مكتظٍّ بالناس، أي ما يعادل سبعَ قنابلَ نوويةٍ مثل التي أُلقيت على مدينتَي هيروشيما وناكازاكي اليابانية، ولم تُرفع رايةٌ بيضاء، ولم تستسلم لا المقاومةُ ولا شعبُ المقاومة.
وما هو جنسُ وطبيعةُ هؤلاء الناسِ الربّانيين؟ من حفَظةِ كتابِ الله، أو ممّن فهم ونهل من القرآن ما يجعلُ منه إنسانًا قويًّا ذا إرادةٍ عظيمةٍ يُناطح بها طائراتِهم ودبّاباتِهم وكلَّ صواريخِهم العاتية. كيف فهموا القرآن، وكيف جعلوه تطبيقًا عمليًّا راسخًا قويًّا في حياتهم؟
وإذا كان من تميّزٍ وفرادةٍ لصحابةِ رسولِ الله ﷺ فإنها في أمرين: صحبتُهم لرسولِ الله، وحملُ رسالةِ السماءِ للناس بقوةٍ وأمانة. واليوم نجدهم على مسافةٍ قريبةٍ جدًّا من رسولِ الله روحًا وهديًا واقتداءً وتضحيةً وفداءً، ونجدهم أيضًا من خيرِ من حمل رسالةَ السماء. لم يقفوا عند حدود الحفظ وظاهر النصّ، بل غاصوا في أعماقه، وأجادوا فهمه، ثم برعوا في تطبيقه إلى الدرجة التي وصلوا فيها إلى أعلى درجات التضحية، لتكون حياتُهم ومماتُهم كلُّها في سبيل الله، وأنّ الموتَ والحياةَ عندهم سيّان، بشرط أن يكونا في سبيل الله.
نماذجُ عظيمةٌ وجدناها تتكرّر بأبهى الصور:
فإذا رمى الحبابُ بنُ المُنذر في بدرٍ تمراتٍ في يديه قائلًا: «ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء»، استعجل لقاءَ الله وهو يرى وقتَ أكلِ تمراتٍ طويلًا إذا حال بينه وبين لقاء الله. اليوم نجد من يجري القُرعة على مَن سيفوز أوّلًا بلقاء الله في عملياتٍ لا يعود منها إلا إلى الجنة.
وإذا وجدنا من الصحابةِ من يُحيط برسولِ الله في أُحدٍ مخافةَ أن يمسّه الكفارُ بأذًى، فها هم رجالُ غزّة يُحيطون بميراثِ رسولِ الله، حيث الفهمُ القويمُ لهديِه المتجسّدُ بأعلى درجات الإحاطةِ والتضحيةِ، كي لا يمسّ أحدٌ هذا الميراثَ العظيمَ من الهدي الذي يُنتِج الجهادَ بأعلى وأبهى صوره العظيمة.
وإذا وجدنا مُصعبَ بنَ عُميرٍ سفيرًا لرسولِ الله إلى اليمن، والتابعيَّ أوَيسَ القَرَنيّ يأتي من أمدادِ اليمنِ إلى جبهاتِ الفتحِ الإسلاميّ، نجدُ اليمنَ اليوم تقف على قدمٍ وساقٍ نصرةً لغزّة بكلّ ما أُوتيت من عزمٍ وقوّة.
وإذا وجدنا من يقتحم روضةَ مسيلمةَ الكذّابِ في معركةِ اليمامة، نجدُ اليوم من يقتحم الدبابةَ — فخرَ الصناعةِ الطاغوتية — ويلقي عبوتَه الناسفةَ في عمقها. ووجدنا من يُطارد دبّاباتِهم ويتربّصُ بهم في كمائنِ الموتِ المتفجّرة.
وإذا كانت الفئةُ القليلةُ المؤمنةُ على مرّ المعاركِ الخالدةِ تغلبُ الفئةَ الكثيرة، وجدنا اليوم القليلةَ جدًّا، المحاصَرةَ، وذاتَ الأسلحةِ المتواضعةِ جدًّا والمصنوعةِ محليًّا، تقفُ صامدةً أمام جيشٍ عرمرمٍ، بفرقٍ متعددةٍ، وبأحدثِ الأسلحة، وموصولٍ بأعظمِ دولِ العالم، بكلّ ما لديهم من قوّةٍ عسكريةٍ وسيبرانيةٍ وأقمارٍ اصطناعية، وعلى مدارِ حربٍ طويلةٍ استمرّت سنتين، ومع خذلانِ الأمّة وتآمرِ كثيرٍ من دولِها مع العدوّ. هذا ما لم يعرفْه التاريخ من قبل.
والأمثلةُ كثيرةٌ تؤكّد الفوارقَ العظيمةَ بين ما يجري اليوم وما جرى قديمًا. إننا أمام صحابةٍ جدد أحْيَوا سيرةَ هذه الأمّة الأولى على أفضلِ ما يكون، لم يكتفوا بالسيرِ على خُطاهم، بل زادوا على ذلك تضحيةً وفداءً وإبداعًا. وهنا تكمن العظمةُ في أن لا يُعيد التاريخُ نفسه، بل يزيدَ عليه بفتحِ آفاقٍ جديدةٍ يتجلّى فيها التجديدُ والإبداعُ بأبهى الصور.
ما صنعته غزة بمقاومتها وشعبها العظيمين وما قدّمت للامة من نموذج نبويّ رباني أعادت فيه انتاج الصحابة أو لنقل الصحابة الجدد ما هو الا إحياء جديد للدين وتجسيد عملي واقعي عظيم ليقول للناس أجمعين هذا هو الدين الحق: فهم وعمل وفداء وتضحية. الدين الذي ينتج ثورة على طواغيت الأرض ويظهر العدالة والايمان بوجهها المشرق. الدين الذي يظهر فشل وعجز منظومة القيم الغربية التي اعتادت أن تكيل للناس بمكيالين وأن تنحاز لأبشع عنصرية عرفتها البشرية، عنصرية المشروع الصهيوني الذي يقوم بحرب الإبادة برعاية هذا العالم الغربي الرسمي الذي ظهر بفضل غزّة أسفل دجات الانحطاط البشري.
غزّة بصحابيتها الجدد هي الان المؤهلة لإعادة إنتاج المنظومة القيمية للناس أجمعين، هي شمس الحضارة الإنسانية التي تعيد لها روحها وفق تعاليم رسالة السماء.