| |

مار الياس مخيم صغير يختصر أكبر المآسي

في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، وتحديدًا إلى الجنوب الغربي منها، يقف مخيم مار الياس شاهدًا صامتًا على واحدة من فصول اللجوء الفلسطيني الطويلة، رغم صِغر مساحته وقلة عدد سكانه، إلا أن هذا المخيم يحمل في أزقته الضيقة تاريخًا حافلًا بالتهجير، والتبدّل الديمغرافي، والصمود الإنساني في مواجهة الفقر والتهميش.

يقع مخيم مار الياس على بعد نحو 107 كيلومترات من الحدود مع فلسطين المحتلة، ويُعد أصغر المخيمات الفلسطينية في لبنان من حيث المساحة والسكان حيث تبلغ مساحته نحو 5.4 دونم (حوالي خمسة آلاف متر مربع)، ما جعله واحدًا من أكثر المخيمات اكتظاظًا وضيقًا في البنية العمرانية.

التأسيس والخلفية التاريخية

تأسس المخيم عام 1952م على أرض تعود ملكيتها لوقف الروم الأرثوذكس، وقد أُنشئ بمبادرة من رهبانية دير مار الياس لإيواء اللاجئين الفلسطينيين من الروم الأرثوذكس القادمين من منطقة الجليل شمال فلسطين.

استقر اللاجئون في بداياتهم داخل خيام نُصبت في حرش قريب من الدير، وأُطلق على المخيم اسمه نسبةً إلى هذا الدير.

أرض المخيم، كسائر المخيمات الفلسطينية، مستأجرة من قبل وكالة الأونروا لمدة 99 عامًا.

التركيبة السكانية والهجرة

تميّز مخيم مار الياس منذ نشأته بحركة هجرة واسعة، لا سيما بين العائلات الفلسطينية المسيحية من الروم الأرثوذكس. ومع مرور السنوات، غادرت معظم العائلات التي استقرت فيه منذ عام 1952.

استُبدلت هذه العائلات تدريجيًا بلاجئين فلسطينيين قادمين من مخيمات أخرى، أبرزها مخيم تل الزعتر بعد تدميره عام 1976م، ومخيم الرشيدية جنوب مدينة صور، إضافة إلى لاجئين تهجّروا داخليًا خلال الحرب الأهلية اللبنانية عام 1991م.

يبلغ عدد اللاجئين المسجلين في المخيم نحو 662 نسمة، فيما يُقدَّر عدد سكانه حاليًا بحوالي 600 نسمة وفق إحصاءات الأونروا.

الواقع السكني والبنية التحتية

لا يختلف الوضع السكني في مخيم مار الياس كثيرًا عن باقي المخيمات الفلسطينية في لبنان. فقد شُيّدت المنازل على عجل، وفي ظل قيود مشددة على البناء، ما أدى إلى تلاصق البيوت وضيق المساحات.
تعاني المساكن من ضعف التهوية، وارتفاع نسبة الرطوبة، وغياب أشعة الشمس عن معظم الغرف، فضلًا عن افتقارها إلى الشروط الصحية والبيئية الأساسية، الأمر الذي ينعكس سلبًا على صحة السكان وجودة حياتهم.

ويقول الباحث الحقوقي حسن السيدة أن مخيم مار الياس يمثل تجسيداً واضحاً لواقع حقوقي شديد التعقيد في ظل غياب الحماية القانونية الكاملة وحرمان اللاجئين من التمتع بحقوقهم الأساسية التي نصت عليها المواثيق الدولية.

ويشير السيدة في هذا الصدد أن قضية المساكن في مخيم مار الياس تتجاوز كونها مجرد أزمة مكان لتصبح قضية حقوق إنسان مستمرة تتطلب إهتمام دولي ومحلي عاجل، معتبراً أن تحسين الأوضاع المعيشية داخل المخيم هو واجب أخلاقي وقانوني يقع على عاتق الدولة اللبنانية والمجتمع الدولي ومنظمات المجتمع المدني على حد سواء.

​ودعا السيدة في حديثه لصدى الشتات كافة الجهات المعنية إلى إبداء التزام جدي ومسؤول لضمان حقوق اللاجئين الفلسطينيين دون أي تمييز، والعمل على مواءمة السياسات المتبعة مع الاتفاقيات الدولية التي تضمن حق الفرد في بيئة سكنية آمنة وصحية تحفظ له إنسانيته وتصون حق الحياة.

الخدمات الصحية

يوجد في المخيم عيادة تابعة لوكالة الأونروا تضم عددًا لا بأس به من الأطباء، وتؤمّن جزءًا من الأدوية الأساسية للاجئين، وفي الحالات المرضية التي تستدعي رعاية متقدمة، يُحوَّل المرضى إلى مستشفى حيفا في مخيم برج البراجنة، أو إلى مستشفى رفيق الحريري الجامعي للحالات المصنفة من الدرجة الثانية.

الواقع التعليمي

يضم المخيم مدرسة واحدة فقط تابعة للأونروا، وهي مدرسة “الكابري” المختلطة، وتستقبل أكثر من 300 تلميذ من الصف الأول حتى الصف السادس.

أما طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية، فيضطرون إلى متابعة تعليمهم في مدارس الأونروا في منطقة بئر حسن غير أن تكاليف النقل المرتفعة، في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة، تدفع العديد من العائلات، خاصة تلك التي لديها عدد كبير من الأبناء، إلى حرمان أولادها من استكمال تعليمهم.

الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية

يعاني سكان مخيم مار الياس، كغيرهم من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، من أوضاع اقتصادية قاسية حيث تشير الدراسات إلى أن نسبة الفقر تتجاوز 90%، بحسب نتائج المسح الاجتماعي الذي أجرته الأونروا بالتعاون مع الجامعة الأمريكية في بيروت.

هذا الواقع المأزوم دفع عددًا كبيرًا من الشباب إلى التفكير في الهجرة نحو أوروبا ودول أخرى، بحثًا عن فرصة حياة كريمة ومستقبل أفضل، بعد أن أُغلقت أمامهم معظم سبل الأمل داخل المخيم.


رغم ضيق المساحة وشح الإمكانات، يبقى مخيم مار الياس أكثر من مجرد تجمع سكني صغير؛ إنه قصة لجوء متواصلة، تختصر معاناة الفلسطينيين في لبنان، وتُجسّد في الوقت نفسه قدرتهم على الصمود والتشبث بالحياة بين جدرانه المتلاصقة وأزقته الضيقة، حيث لا تزال الأحلام مؤجلة، لكن الأمل بالعدالة والعودة والعيش بكرامة لم ينطفئ، مهما اشتدت قسوة الظروف.

موضوعات ذات صلة