في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، لا تُقاس الأيام بالتقويم، بل بقدرة العائلات على الصمود حتى نهاية النهار. هنا، حيث تتراكم الأزمات منذ عقود، يتقدم الغلاء المعيشي ليكون الخطر الأشد قسوة، محولًا تفاصيل الحياة اليومية إلى صراع مفتوح مع الجوع، والمرض، والعوز، وغياب الأمان الاجتماعي.
اللاجئ الفلسطيني، الذي يعيش أصلًا في دائرة حرمان قانوني واقتصادي، وجد نفسه اليوم أمام انهيار شامل طال مصادر الدخل المحدودة، ورفع كلفة المعيشة إلى مستويات غير مسبوقة، في ظل تقليص المساعدات الإغاثية، وغياب أي خطط طوارئ حقيقية تستجيب لحجم الكارثة الإنسانية المتفاقمة داخل المخيمات.
هذا التقرير، ينقله موقع صدى الشتات من قلب مخيم نهر البارد، عبر شهادات حية لأصحاب مهن بسيطة، وشباب، وربّات بيوت، ليعكس صورة واقعية عن حياة بات فيها تأمين الطعام والدواء والتعليم تحديًا يوميًا يفوق قدرة آلاف العائلات.
زياد حامد – صاحب ملحمة: حتى “أصحاب المصالح” تحت الضغط

في قلب المعاناة، يقف زياد حامد، صاحب ملحمة، كشف فيه عن حجم الضغوط التي يواجهها حتى أولئك الذين يُصنفون بأنهم “أصحاب مصالح”.
يبدأ حامد حديثه بنبرة يملؤها الواقعية المريرة، مشيراً إلى أنه اضطر لاتباع سياسة تقشف صارمة طالت أبسط مقومات الحياة: “أنا واحد من الناس الذين قلصوا وجبات طعامهم واحتياجاتهم من اللباس”. ولم يتوقف الأمر عند الغذاء والكساء، بل وصل إلى التعليم، حيث يوضح بأسى أنه اضطر لايقاف اثنين من ابنائه من الدرس الخصوصي وبقاء اثنين آخرين.
قارن حامد بين الماضي والحاضر بلغة الأرقام، مشيراً إلى أن الرواتب التي كانت تتراوح سابقاً بين 600 و 800 دولار تلاشت قيمتها. وضرب مثلاً بالعاملات في المحال التجارية اللواتي كن يتقاضين 200 دولار (حين كان الصرف 1500 ليرة)، بينما يتقاضين اليوم نحو 70 دولاراً، متسائلاً باستنكار: “كيف يمكن لـ 70 دولاراً أن تكفي متطلبات الحياة، وهي لا تعادل أجر ساعة عمل واحدة للعامل في أوروبا؟”.

رغم امتلاكه لمصلحة خاصة (ملحمة) وأملاك، إلا أن حامد يؤكد أن الأزمة لم تستثنِ أحداً: “الأمور مضروبة تماماً، خاصة في شهري تشرين الثاني وكانون الأول”. ومن هنا، يطلق صرخة تضامن مع العمال المياومين، مثل “الدهانين” وعمال “التلييس”، الذين يشتغلون يوماً ويعطلون عشرة في فصل الشتاء، متسائلاً كيف ليومية تبلغ 20 دولاراً أن تعيل عائلة لعشرة أيام متواصلة.
غياب الضمير ومعاناة المرضى
بلهجة حادة، انتقد حامد الشخصيات المنفصلة عن الواقع التي تدعي أن الأوضاع في المخيمات أو المناطق الشعبية “بأعلى جودة”، معتبراً أن من يملك الملايين في البنوك لا يمكنه الشعور بوجع الناس. وسلط الضوء على الفئات الأكثر هشاشة، وهم مرضى السرطان والكلى الذين يواجهون الموت يومياً لتأمين جرعة علاج أو الوصول إلى المستشفى، واصفاً من يتجاهل هذه المعاناة بأنه “بلا ضمير”.
الحاج شريف سعيد – بائع خضار: “الناس لا تأكل”
غير بعيدٍ عنه، يقف الحاج شريف سعيد خلف بسطة خضاره التي كانت يوماً تضج بالألوان والزبائن. “هذه السنة الوضع جداً صعب، الناس تقول إنها لا تأكل، أي ليس لديها المال الكافي للأكل. البيع صعب ولا يوجد عمل، لقد أثّر ذلك على كل شيء.”
يتابع قائلاً:
“أصبح الشخص يأكل من اللحم الحي، كنا في السابق ندخر بعض المال، أما الآن فنحن نصرف مما ادخرناه. لا يوجد شغل، لا يوجد عمل.”
ويضيف حول تأثير الأزمة على عائلته:
“لقد اضطررت لتقليص المصاريف في كل شيء، ولدي أبناء في الجامعات، والأمور ليست كما كانت في السابق. حتى أقساط الجامعة، أضطر للاستدانة هذا العام لتغطيتها، فلا يوجد عمل يغطي التكاليف.”

عمر وهبة – سائق توكتوك: نعمل لنأكل… ونتوقف فنموت جوعاً
في شوارع المخيم، يجوب الشاب عمر وهبة بـ “التوكتوك” الخاص به، باحثاً عن راكبٍ ضائع في زحمة الهموم. عمر يمثل جيل الشباب الفلسطيني الذي وجد نفسه غارقاً في مستنقع من الالتزامات المالية التي لا تنتهي. “إذا اشتغلت منأكل، وإذا ما اشتغلت منموت من الجوع”، هكذا يلخص عمر معادلته الوجودية.
ويتابع عمر : اليوم إذا اشتغلت بنقدر نأمّن أكل لأولادنا، وإذا ما اشتغلت ما في مصاري وما في أكل. والله العظيم ضلّينا واقفين ساعة وساعتين وما إجانا ولا راكب. الشغل شبه معدوم، مش مثل أيام زمان، أيام الألف وخمسة، اليوم الدولار طلع ودمّر الناس.
وأضاف: عنا عائلات وأولاد، عنا إيجار بيوت، وحتى التكتك اللي نشتغل عليه عليه إيجار. الديون مكدّسة من كل الجهات، أي شاب بحالتي غارق بالديون، ديون محلات، وديون معيشة، ومسؤوليات تقيلة.
بنسأل: وين اللجان الشعبية؟ وين المؤسسات؟ وين الفصائل؟ وين الأونروا يلي هي مسؤولة عن اللاجئ الفلسطيني، كل الأعباء عم تنحط على كاهل الفلسطيني. خلص، لهون وصلنا.

نهى علي – ربّة منزل: شراء يوم بيوم هربًا من الديون
وتقول نهى علي ربة منزل إن موجة الغلاء المتصاعدة غيّرت بشكل جذري نمط الحياة داخل المخيم: “هناك ارتفاع كبير في الأسعار. في السابق، كانت العائلة قادرة على شراء كميات تكفيها لشهر كامل، أما اليوم فلم نعد نستطيع ذلك، وأصبحنا نشتري احتياجاتنا يوماً بيوم. فبدلاً من شراء أربعة أنواع من الفاكهة، نكتفي اليوم بنوع واحد فقط، أو نوعين كحد أقصى، وبكميات قليلة جداً ومن البيكبات.
وعن الواقع الاقتصادي العام، تضيف: الأوضاع صعبة للغاية، ولا توجد مساعدات من الأونروا، كما أن هناك العديد من العائلات المستحقة التي لا تحصل على أي دعم. في كل مرة، يكون الفقير هو من يدفع الثمن الأكبر.”
وتشير إلى تفاقم أزمة الديون داخل المخيم، موضحة أن كثيراً من العائلات باتت عاجزة عن تسديد التزاماتها اليومية، وتتابع: هناك عدد كبير من الناس تراكمت عليهم الديون، فيما يحاول البعض تجنّب ذلك من خلال شراء حاجاتهم يوماً بيوم، حتى لا يغرقوا أكثر في الاستدانة.”
وفي ختام حديثها، تحمّل المسؤولية بشكل مباشر لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، قائلة:
الأونروا تتحمّل مسؤولية أساسية عمّا نعيشه اليوم. في السابق، كانت تقدم مساعدات، وتؤمّن الغاز والاشتراكات، أما الآن فقد أصبح كل شيء باهظ الثمن، من اشتراكات الخدمات إلى إيجارات المحلات، دون أي بدائل حقيقية تحمي الناس من هذا الانهيار.”

الدوخي – بائع كعك: لقمة العيش الأخيرة
تكتمل فصول هذه المأساة مع الدوخي، بائع الكعك، الذي كان يمثل الرمز الشعبي للقمة العيش البسيطة والمتاحة للجميع، بات اليوم يعاني من الركود. الدوخي، الذي يقف أمام بسطته من الصباح الباكر، يرى في عيون الناس الرغبة في الشراء والعجز عن الدفع.
ويقول الدوخي: “والله يا دوب نطلع مصروفنا، الحمد لله رب العالمين، بس الوضع تعبان ما زي الأول، يا دوب عم نجمع لقمة العيش، وما في حدا بيتطلع، لا مؤسسات ولا حدا ولا إنسان بيتطلع فينا، ولا حدا بيسأل، يعني وضعنا تعبان كتير، وبنطلب من الله الفرج بس.”
ويضيف بحسرة: “الحمد لله عم بطلّع مصروف بيتي… أكلاتي بس، إنه توفير ما فيه، والله واذا احتجنا لدوا ما موجود بالأونروا بدنا نطلب من العالم مساعدة، لأنه ما حدا عم يتطلع، عرفتي شو؟ وأنا زلمة يعني مضروب عندي إعاقة، ما فيني أشتغل يعني غير الكعك، الكعك شو بدها تعمل”

في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، لم يعد الفقر حالة طارئة، بل واقعًا دائمًا يزداد قسوة مع كل يوم جديد. شهادات الأهالي، على اختلاف أعمارهم ومهنهم، تكشف حقيقة واحدة: غلاء خانق، وغياب شبه كامل لشبكات الأمان الاجتماعي، وتراجع خطير في دور الجهات المسؤولة، وفي مقدمتها الأونروا.
بين بائع خضار يستدين لتعليم أبنائه، وشاب يقود “توكتوك” مثقلاً بالديون، وربّة منزل تحسب ثمن كل وجبة، وبائع كعك لا يملك سوى الدعاء، تتجلّى صورة المخيمات اليوم: حياة تُدار بالحد الأدنى، وصمود يُختبر كل يوم، في انتظار من يسمع الصوت قبل أن يصبح البقاء نفسه عبئًا لا يُحتمل.